الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد **
قال أبو الدرداء (1) فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه. والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح. قال تعالى فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل ، أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة ، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام الإحسان. فأكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان موفيا كل واحد منهما حقه ، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله حتى تَرِم قدماه ، ولا يترك شيئا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر . والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم وحقائق الإيمان على بواطنهم ، ولا يقبل واحدا منهما إلا بصاحبه وقرينه. وفي المسند مرفوعا : وإذا عرف هذا ، فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان : قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها ،وإن لم يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال . وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم وعكفوها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر والإرادات معه .وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل والإنابة ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلبه من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية ، فإذا حصل لأحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل ، لم يستبدل به شيئا سواه ألبتة ، إلا أن يجيء الأمر فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه ، وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد . فإذا جاءت النوافل فههنا معترك التردد ، فإن أمكن القيام بها فذاك وإلا نظر في الأرجح .والأحب إلى الله هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف وإرشاد ضال وجبر مكسور واستفادة إيمان ونحو ذلك ، فههنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة ، ومتى قدمها لله رغبة فيه وتقربا إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر ، وإن كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فإنه يفوت والنافلة لا تفوت. وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق ومراتب الأعمال وتقديم الأهم منها فالأهم ، والله الموفق لذلك لا إله غيره ولا رب سواه. أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة ، وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة ، فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك كلها ناشئة من الكبر . وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك ، فإنها من المهانة والدناءة وصغر النفس . وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحلم والعفو والصفح والاحتمال والإيثار وعزة النفس عن الدناءات والتواضع والقناعة والصدق والإخلاص والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل والتغافل عن زلات الناس وترك الاشتغال بما لا يعنيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك ، فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة . والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتأخذ زينتها وبهجتها ، فكذلك المخلوق منها إذا أصابه حظه من التوفيق. وأما النار فطبعها العلو والإفساد ثم تخمد فتصير أحقر شيء وأذله ، وكذلك المخلوق منها ، فهي دائما بين العلو إذا هاجت واضطربت ، وبين الخسة والدناءة إذا خمدت وسكنت ، والأخلاق المذمومة تابعة للنار والمخلوق منها ،والأخلاق الفاضلة تابعة للأرض والمخلوق منها . فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل ، ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل. المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة ، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه ، فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره . وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه ، فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب ، فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته ، وإذا كانت همته سافلة تعلقت بالسفليات ولم تتعلق بالمطلب الأعلى ، وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة إليه ، فمدار الشأن هل همة العبد ونيته وهما مطلوبه وطريقه ولا يتم له إلا بترك ثلاثة أشياء : العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس . الثاني : هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها . الثالث : قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب . والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة ، فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه ، والله المستعان . من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قال رجل عنده : ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين ، أحب أن أكون من المقربين. فقال عبد الله : لكن ههنا رجل وَدَّ أنه إذا مات لم يبعث ؛ يعني نفسه . وخرج ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم : ألكم حاجة ؟ قالوا لا ، ولكن أردنا أن نمشي معك ، قال : ارجعوا ، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال : لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب. وقال : حبذا المكروهان : الموت والفقر ، وأيم الله إن هو إلا الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت ، أرجو الله في كل واحد منهما ، إن كان الغنى أن فيه العطف، وإن كان الفقر أن فيه الصبر . وقال : إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة ، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع مثل ما زرع ، لا يسبق بطيء بحظه ولا يدرك حريص ما لم يقدر له. من أعطي خيرا فالله أعطاه ،ومن وقي شرا فالله وقاه . المتقون سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة . إنما هما اثنتان : الهدي والكلام ، فأفضل الكلام كلام الله ، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب ، ألا وإن البعيد ما ليس آتيا ، ألا وإن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن السعيد من وعظ بغيره ، إلا وإن قتال المسلم كفر وسبابه فسوق ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويعوده إذا مرض. ألا وإن شر الروايا روايا الكذب ، ألا وإن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه ألا وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ، والصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ، وإنه يقال للصادق صدق وبر، ويقال للكاذب كذب وفجر، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم حدثنا أن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا. إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقى، وخير الملة ملة إبراهيم ، وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي الأنبياء ، وأشرف الحديث ذكر الله وخير القصص القرآن وخير الأمور عواقبها وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ونفس تنجيها خير من نفس أمارة لا تحصبها، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والريب من الكفر، وشر العمى عمى القلب ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والنوح من عمل الجاهلية. من الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا (3) ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون . وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا. ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا سخابا (5) من تطاول تعظما حطه الله ومن تواضع تخشعا رفعه الله. وإن للملك لمة(6) إن الناس قد أحسنوا القول، فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبخ نفسه. لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب(7) من اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدا على رزق الله، ولا تلوم أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره، وإن الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك ، يفتح له. إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت (8) إن للقلوب شهوة وإدبارا فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها ودعوها عند فترتها وإدبارها. ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية. إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضه قلبا، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضه جسما، وأيم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان. لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته، ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء ، وإن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه منه شيء، يأتي الرجل ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، فيقسم له بالله إنك لذيت وذيت(9) لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. الإثم جَوَّاز (10) ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطمعا. مع كل فرحة ترحة وما ملئ بيت حبرة (11) يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان(12) إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه فليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيء. رب شهوة تورث حزنا طويلا. ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان . إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها. من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل ، فإن قلب الرجل مع كنزه . لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. لا يكن أحدكم إمعة، قالوا وما الإمعة؟ قال: يقول أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت ، ألا ليوطن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر. وقال له رجل: علمني كلمات جوامع نوافع، فقال اعبد الله لا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيبا قريبا. يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له أد أمانتك فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فتمثل على هيئتها يوم أخذها في قعر جهنم ، فينزل فيأخذها فيضعها على عاتقه فيصعد بها، حتى إذا ظن أنه خارج بها هوت وهوى في أثرها أبد الآبدين. اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن ، وفي مجالس الذكر وفي أوقات الخلوة ، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك. قال الجنيد(13) لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت . فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع ، والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتي العبد منها شيئا سواه . وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده، كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم : إن مدحي زين وذمي شَيْن، فقال: ذلك الله عز وجل . فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه ، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب . قال تعالى : لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله ، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال . فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا التفتت إليه وربما تألمت من ذلك، كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه. وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والأنس بربه فهذا ممن قال تعالى فيه: سبحان الله رب العالمين . لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواما لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق وجواز القول بينهم وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر ، والأمن من مخاوف الفساق والفجار ، وقلة الهم والغم والحزن ، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية ، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار ، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب ، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي ، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس ، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس ، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب ، وسرعة إجابة دعائه ، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله ، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن منه ، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت ، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير ، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة ووجد حلاوة الإيمان ، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه. فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة ، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش ، فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين و ذكر ابن سعد في الطبقات (18) اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه به وتوفيقه له فيه وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته ، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن ، فالذي من عليه بذلك هو الذي من عليه بالقول والفعل فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبت عن شهود منه ربه وتوفيقه وإعانته . فإذا غاب عن تلك الملاحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى ، فوقع العجب ففسد عليه القول والعمل، تارة يحال بينه وبين تمامه ويقطع عليه ويكون ذلك رحمة به حتى لا يغيب عن مشاهدة المنة والتوفيق . وتارة يتم له ولكن لا يكون له ثمرة، وإن أثمر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود. وتارة يكون ضرره عليه أعظم من انتفاعه، ويتولد له منه مفاسد شتى بحسب غيبته عن ملاحظة التوفيق والمنة ورؤية نفسه وإن القول والفعل به. من هذا الموضع يصلح الله سبحانه أقوال عبده وأعماله ويعظم له ثمرتها أو يفسدها عليه ويمنعه ثمرتها فلا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس ، فإذا أراد الله بعبده خيرا أشهده منته وتوفيقه وإعانته له في كل ما يقوله ويفعله فلا يعجب به. ثم أشهده تقصيره فيه وأنه لا يرضى لربه به فيتوب إليه منه ويستغفره، ويستحي أن يطلب عليه أجرا وإذا لم يشهده ذلك وغيبه عنه فرأى نفسه في العمل ورآه بعين الكمال والرضا، لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرضا والمحبة ، فالعارف يعمل العمل لوجهه مشاهدا فيه منته وفضله وتوفيقه ، معتذرا منه إليهن مستحييا منه إذ لم يوفه حقه، والجاهل يعمل العمل لحظه وهواه ناظرا فيه إلى نفسه يمن به على ربه راضيا بعمله، فهذا لون وذاك لون آخر. فصل: فوائد هجر العوائد الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق . فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفروه أو بدعوه وضللوه، أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السنن، ونصبوها أندادا للرسول يوالون عليها ويعادون ،فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها. وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء والمطوعين والعامة. فربي فيها الصغير ونشأ عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند أصحابها من السنن. الواقف معها محبوس والمتقيد بها منقطع . عم بها المصاب، وهجر لأجلها السنة والكتاب . من استنصر بها فهو عند الله مخذول ، ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسوله فهو عند الله غير مقبول، وهذه أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله. وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها ، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه ، وهي ثلاثة أمور: شرك، وبدعة ، ومعصية، فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد ، وعائق البدعة بتحقيق السنة ، وعائق المعصية بتصحيح التوبة. وهذه العوائق لا تبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة. فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحسن (20) وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياساتها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضه إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى ، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع. فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا بالعكس . والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه . وذلك على قدر معرفته وشرفه وفضله على ما سواه. لما كمل الرسول صلى الله عليه وسلم مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج (21) من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره .وكلما زيد في عمره نقص من حرصه. وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله . وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم. وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه ، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام. وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء ، كالملك والسلطان والمال . قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده:
|